الأربعاء، 5 ديسمبر 2012

طعم الرماد




 


لا شيء  يقمع هذا الجوع المعربد في أحشائنا.. لا شيء يقهر هذا الصقيع الملتصق بشحوب جدراننا.. لا شيء يقهر هذا الجفاف الموغل في أديمنا الراسم بأظافره شقوق ظمئه إلى دمائنا...
ليل شتاء طويل لا يدفئه أوار الشوق ولا تختصره نوافل الزهد.. ننام ونصحو مرات ومرات, تعترك فينا رغبات شتى.. نحن نسوة أبعدت يد الزمان أزواجهن.. بعثرتهم على مرافئ مختلفة بحثا عن لقمة العيش..تنحت السنين مرورها على وجوهنا بقسوة ويخط الانتظار مُسْندَهُ على ملامحنا ألم وأمل ودهشة ظنون.
تولى رعايتنا عمنا الشيخ الكبير, أبو أزواجنا الخمسة.. كفلنا في حصنه العتيد مع أولادنا الكثير,ينفق علينا مما يرسله له أولاده المغيبون في أصقاع الأرض أو من أرضه المرهون عطاؤها بما تجود به السماء, فلا بئر لديه يمتح منها خصوبة الأرض وسرعة الإنتاج. ما نناله أقل بكثير من احتياجاتنا...... لكننا نكتفي بما لدينا.. ندفن احتياجاتنا حيث ندفن آمالنا ورغباتناكل شيء جاف حولنا كجفاف عواطفنا التي يبست على عتبات الانتظار..... نضع صغارنا في حجورنا.... في صدورنا..... نلتصق بهم أكثر.... نسد بهم كل ثغرة قد يتسرب إلينا منها الملل أو حمى الاحتياج...لسنا سواء... تمردت إحدانا وفرت بولديها إلى عائلتها حيث الراحة والعيش الرغيد نسيت أنها زُفت إلينا عندما كان والداها على قيد الحياة, وكانت في حياتهما ملكة تأمر فتُطاع, أما الآن... بعد رحيل والديها وبعد أن تولى الأشقاء إدارة كل شي....فليس الشقيق كالوالد... ندمت لتركها منزل العائلة, ندمت كثيرا, ندمت لأنها اكتشفت الفرق بين بيت الوالد و بيت الشقيق.. كلما رأتنا طفقت بالدموع وتوسلتنا الرجوع إلى المنزل مع ولديها.. لكننا لا نملك من أمرنا شيئا والأمر كله بيد عمنا الشيخ الغاضب منها أيما غضب, ومع هذا فقد حاولتْ.. بل حاولنا جميعا.. حاولنا استدرار عطفه على أحفاده كثيرا حتى أومأ برأسه على مضض.. حين عادت أم يسرم كافأنا عمي بأن أعطى أولادنا عشاءنا ليأكلوه وقال لي: يا أم يزن.. تناولن أم يسرم على العشاء.


تمطى ليلنا بطول السهر, وانهالت علينا سياط الجوع فتجافت جنوبنا عن المضاجع.. فزعنا إلى نوافل الليل وبعدها إلى السمر.. تسامرنا.. سردنا حكايات من ماضينا القريب والبعيد.. تعللنا بالأحاديث على أمل أن تتسرب إلينا سنة من نوم فننام, لكن الجوع والبرد لا يتركان للنوم مجالا...أخرجَتْ كبرانا من كوتها صُرّة من دقيق القمح وطلبت مني خبزه سريعا.. أمسكت الصرة وعرفت من وزنها أنها لا تكفي لإشباعنا جميعا, وما إن نثرتها في الوعاء حتى تأكد لي حدسي الأول, قلت في نفسي: إنها لا تكفي

تلفت يمينا وشمالا..كنت أبحث عن أي شيئ أُضيفه لهذا الطعام ليصبح أكثر.. بحثت كثيرا حتى وجدته.. يشبه الدقيق الذي أمسكه في يدي.. ملمسه ناعم ولكن شتان بين طعم هذا وذاك.. سأضيف منه إلى طعامنا حتى تصبح الكمية كافية لسد جوعنا..لن يفطن أحد لفعلتي.. الغاية تبرر الوسيلة وغايتي هي ملؤ الفراغ المعربد في أجوافنا.. أعددتُ الطعام و أحضرته.. صاحت النسوة عند رؤيته : يا الله.. كيف أصبح خبزنا بهذا السواد؟ أجبتهن بجرأة: إنه بلون العتمة التي تغلف أيامكن.... (ثم نهرتهن) كلن ولا تتأملن.
بدأتُ بالتهامهِ.. اقتربت أولاهن ثم تقاطرن إليه جميعا, وبعد أن فرغنا منه قلت لهن: لقد أضفت إليه كمية من الرماد ليتكاثر, أرجو أن يغفر لي الله وتسامحني أم يسرم على هذه الضيافة. ضحكت أم يسرم حتى تقاطر الدمع من وجنتيها وقالت: طعم الرماد في بيتي أشهى من الشهد في مكان لا هوية لي فيه.







12 التعليقات:

Unknown يقول...

مساء الخير أمل :

لاأملك إلاأن اقول الله.. الله .. الله

دمت دائما مبدعه.

تــحــيـاتــي

اريج الامل يقول...

الراقية يسرا

مساء الورد

شكرلك ..أسعدني رأيك حول النص

شلال أمتنان لحضورك الألق

Unknown يقول...

صباح الخيـر أمل,,
"طعم الرماد في بيتي أشهى من الشهد في مكان لا هوية لي فيه"
ما أجملها من عبارة, فعلا لا يمكن أن يسعدك مكان فقدت فيه هويتك.
قبلآآآآتي :)

اريج الامل يقول...

صباح الجمال سهام
حياك الله
ممتنة لحضورك النقي وقراءتك الرائعة
دمت بالوصل وبالود

حنين محمد يقول...

صباح الغاردينيا آموله
يالله ماأجملها رغم مرارة البداية حيث غادر الأزراج وتركوا نسائهم وهذا فعل المجتمع والظروف التي تجعل البعض يبحث عن لقمة العيش في الغربة مروراً بألامهن النفسيه وأحتياجهن لدفئ وأمان ثم خروج احداهن عن دار أهل زوجها وماأصابها في بيت أهلها حين توفيا ليصبح عائلها أخيها ثم عقاب عمهن ودمج إحداهن الرماد بـ الدقيق لتسد جوع آم يسرم صدقت حين قالت جملتها الاخيرة الانثى ماأن تخرج من دار أهلها لدار زوجها تصبح تلك العائلة هي عائلتها وهويتها "
؛؛
؛
لروحك عبق الغاردينيا
كانت هنا
Reemaas

اريج الامل يقول...

مساء الجوري ريماس
حياك الله

أعجبتني قراءتك والتفاصيل التي طرحتيها عن القصة وأتساءل لما لا تبدئين بكتابة القصة خاصة وأنت لديك الكثير من معطيات الكتابة الناجحةاهمها ثراء الكلمة التي تكتبيها..
عزيزتي ريماس: تعلمين كم يسعدني ويشرفني مرورك الخصب النقي
دام تواصلك الندي الجميل

عميق ودي

غير معرف يقول...

الانسان دعيف طبعا امال ايه

اريج الامل يقول...

حياك الله اخي donkejota
أشكر لك مرورك الطيب
تحياتي

Unknown يقول...

مساء الخير أمل:
استمتع بما تكتبينه بعيدا عن مشرط التدقيق الهادم الذي يبرز السيئة ويطمس الحسنة
لك إعجابي ألا محدود

اريج الامل يقول...

حياك الله أختي الكريمة يسرا
شكرا على غيرتك الجميلة كلماتك لي تعني لي الكثير وتبين انك صديقة صدوقة.
غاليتي: أصلح الله بالك وحالك
وسرك بمن تحبين.. شكرا لك ولمعدنك الطيب .
ودي العميق

اسماعيل آل رجب يقول...

كما الدواء المر نتجرعه ولانكاد نسيغه لكن الالم يجبرنا عليه..قصة مؤثّرة بسرد رائع ومفردات جميلة.

اريج الامل يقول...

كما الدواء المر نتجرعه لنمر من خلاله إلى رياض الصحة.. هذه هي الحياة بوجوهها المتضادة..شيءمقابل شيء
الشكر الكثير الكثير لهذة القراءة
الرائعة.. دمت بخير