الاثنين، 21 مارس 2016

البكاء بلغة أخرى







قالت:


الحب كما الموت يأتي مرة واحدة, فإن مِتّ فلا يمكنك العيش ثانية. ستمر لحظات احتضارك أمام عينيك, وستفنى كل اللغات عجزا وضآلة أمام رحاب وجعك. سيكون مخاضا مريرا إلى الجانب الآخر.. سطوته ستُجهض أجنّة الخيال لديك. ستمر بك الوجوه المشمّعة والألسن البكماء دون أن تهبك قطرة من ترياق لمصابك, حتى لتظن أن
وجوها كان لك معها على حبل الود موائد أصبحت سياطا تلهبك تجنيا وإحباطا.

أصدقك القول, قالت:
كنت أظن أنني قطرة ندى تكونت من سحابة وردية, قدمت من آفاق مسحورة تضج بالأساطير وحكايا الجن وهطلت على واحة قلب أستشاط فيه موسم الأمل تفائلا وعطاء فأهتز عرش الفؤاد وربَتْ على جوانبه زهور اللوتس متوِّجةً رأسي وقد أعارتني اجمل تمائم الحُسن عند كليوباترا, فاستنفر النبض المدنف ولاذ بالحلم القادم من عرائش الامل وراح يرسمني عروسا شبيهة بعرائس النيل, حتى إذا اكتملت ملامح الفرح في نفسي زفّني الموج  إلى الأعماق.. إلى اللا شيء.. إلى الفراغ والاختناق.

ولأني ممسوسة بحكايا القلب ومسكونة بأطيافه.. أتجاوز تبعثري.. أنقّب في ركام الأعماق عن مهدٍ أو لحدٍ يلملمني, يضغط مسامي لتزفر فراغا أحتلني ذات ضياع وراعني هجيره..
 لأغفو بعدها في دعة.
 قلت :
أما انا, فحين انشطرت استترت وتدثرت بأسمال الماضي ناكرة انهيار معبدي مسارعة إلى لملمة رخامه وإعادة بنيانه حتى اذا استوى قوامه نفخت فيه من روحي فهالني مابه من قصور, وملأني النفور,  وغرقت في دياجير الصمت والذهول حتى كاد يطويني الذبول.
ثم لم يطل بهجير التحسر مقامي. ولم ترتع في ظل الوهم أحلامي.
نفضت عن بلاط حاضري فُتات الأمس.
انتزعت ثقاب الرفض من فرائص الصمت وأضرمتُ به أفق الرجوع حتى سد سديمه الامدَاء.
وعلى سعف نافلة سَمقَتْ بليْل تهجدي تركتُ بقايا قصتي لليل يطويها كما يشاء.

معاذ الله أن أحترق ثانية على مجامر الشوق.. ومعاذ الله ان تصل رائحة احتراقي إلى وجه نرسيس الغارق في مياه وهمه. سأعبر بقدميّ الحافيتين على صفحة الماء, سأتجاوز وجهه إلى آفاق لا تسعها الأحداق, إلى البعيد, حيث لا نبض إلا لمن يعي أن الحياة خلقت لضدّين. وإن سقط هو في قاعه السحيق سأبقى بأنقى صفاتي.
 فلم تحطم شهقة الانكسار في روحي سوى الوثن الذي اللهْتَهُ على جوارحي واغدقت علية من موائد توقي..

 هل قلت يوما انني احببته؟

ربما نسيت. فقد بردت كل الحواس. أثلجها حداء قوافل الصقيع حين غادرت مداراتي منتشية بتراتيل الرحيل, كان وقع خطواتها يمج من روحي ندى الحياة  مرة وأخرى حتى تعذرت أسباب النجاة واُلحِدتْ كل الجوارح.

  بيد أن لكل موت بعث, وفي بعثي نسيت أو تناسيت لملمة شظايا الذاكرة, فلا حاجة بي إلى رفات موبؤ بالجحود.. ولا حاجة بي إلى ولائم الندم.

 قد يعلو مُكاء الفُقد في جنباتي لكن خطواتي غادرت غابة الظلال منذ جرح.. جرح أمتص عسل الذاكرة وسجن علقمها خلف أوجاعه.

 لا أكذب ولا أغالي إن قلت انني أفتقد امطارالشوق كلما غردت فيروز( سلم لي عليه) وأنني أتكفف ندى القوافي لتعيد لي ذاكرة الود المُطفأ.

 بيد أن أطياف الحزن مازالت  تسود ذاكرتي.. تنفث في نبضي هجيرها حتى سكن الجفاف أنفاسي فأحزن قليلا وأفرح كثيرا.. أفرح لضياع ذاكرة الظمأ.. لانعتاقي من وهم سكنني فرحا وغادرني جرحا .

أنا الآن على ضفاف موحشة, بين بحر ردَمَ بأعماقه زمن التيه و الخوف وغابة أبتلع الليل خضرتها. تطاردني أطياف الامس هناك, تغلّق الابواب كلما هطل رذاذ الشتاء على نافذتي لتفتح لي سردابا إلى خارج الوعي, تقودني إلى اللا مكان وتوقد لي مدفأة من حنين. ولكن ما أن تطأ قدمي أرض المرايا المتكسرة تلك حتى ينبعث من بين حطامها بارود الأمس. فإذا بي أجحد انتكاسة الرفض تلك. وأغادر ابوابها الهلام .
 أترين؟
كلما زفر الماضي, غلّقتُ دونه الأبواب و صرخت فيه : هيت لك.. فلن يعبر أبوابي أبدا وإن أفلح سيجد عند كل باب عزيز من وجعي يرديه في سجن النسيان.

 أنا الآن حرة, خفيفة كريشة. أفرغَ الخواء وديان روحي.
 وأجزم أني سأدير ظهري للذكرى وأنسى معه واقعا لم يعد يعنيني. فقد رمدت المجامر وهبت نسائم القادم تملأ جوارحي بمزيد توق للانفلات من قيد لازمني طويلا وحين تكسّر ملأني بالصدأ.
  لم يعد يعنيني ذلك الشعور الأخضر المفعم بألوان الربيع وعبيره. لم يعد يلهمني ذلك الشغف العذب الموْدع حنايا القصيد, ولم تعد تحلق بي قوافي الغزل إلى البعيد.
 قلبي صار رائقا بالفراغ, صلدا بالتوحد, وفريدا بالحزن.
 سأبقى آمنة في قصر  رصدته أحزاني بمزيد من تعاويذ  النسيان. وسأطل من نافذتي وأنا أخيط من أحزاني  حكايا الصبر على شالاتي حينا. وأغازل مرأتي حينا آخر. أو أفتح كتب الأحزان أقرا شعرا يشبهني عن سيدة تدعى شالوت, سجنتها لعنة وقتلها الحب. لكني وبملء جنوني سأغلق دائرة الاحلام  وأئِد الوانها  وأغرق  في بحر ذاتي. لن أتبع الحب ان مر تحت نافذتي ولن أعزف أغنية الموت الأخيرة.
  أترين؟ ( قلت لها)
قالت في وجع: تبكين بلغة أخرى.
  

0 التعليقات: