الخميس، 27 ديسمبر 2018

قصة حياة بقلم أمل عبدربه





منذ انعتاقي من عتمة العدمية
ومنذ علمي بأني كائن يدعى الانثى
 وأنا اتلمس الظل
كي لا أسير في جنازة الوقت وحدي.


عند منتصف الليل، أسرجت قنديل العودة. خضت بحار الوهم زمنا ثم عدت خالية الوفاض كما ذهبت.
وها أنا هنا، اخيرا عدت إلى محطتي الأولى في الحياة، مسقط رأسي.. بعد عذاب دام لأعوام في غربة قُدّرَ لي خوضها رغما عني.. غربة أرادها رجل لنفسه وأبى حظي إلا أن اشاركه حلمه.

ثلاثون عاما والليل يحتدم بعواصف شجني ، والوحدة  تطفئ  نور نهاري ، والأمل متاهة ارتضيتها دربا لمساندة زوجا لم يقف الحظ في جانبه قط.
هكذا عشت والآن عدت بعد موته..
خمسينية لم تعرها السنين الكثير من الألق ولا من التلف.. تبقيني تلك الملامح المنمقة أنثى من النوع الذي يوحي لرائيه بأنني أقل عمرا.
 وصلت ليلا الى منزل العائلة، ومع هذا فقد كان في استقبالي الجميع، حتى نزهة الرضيعة حفيدة اختي .
"قبل كل شيء يجب استخراج بطاقة شخصية " قال لي الضابط عبّود ولد اختي.
وأكمل حديثة بعد ابتسامة لصغيرته نزهه :  "جوازك يحمل اسما آخر، وعليه ينبغي رد اسمك  القديم لتتمكني من استلام ارثك.. غدا سنشرع في الإجراءات اللازمة".
قالت أختي معاتبة: كيف جرأت على استبدال اسمك الذي وهبك إياه أبي رحمه الله. لم أعلق على حديثها واكتفيت بابتسامة الاعتراف بالخطأ.
ماذا أقول لها؟..
هل أقول إنني رضيت بمجاراة زوجي والخضوع له خوفا من أبي وطمعا في رضاه؟ أم أقول إنني اشتريت نفسي من وهنها، حين بزغ فيها قمر بعُدت سماه عني واستحال الوصول اليه؛ فآثرت الهروب.
اكتفيت بالصمت...
بزغ ضوء الشمس  وعيناي مازالتا تلتهمان الأمكنة بشوق إلى منزل أبي، وأنفاسي  تتسارع لالتقاط  رائحة  الأهل والدار، وأختي تبتسم وهي تقص علي أخبار البلاد والعباد، وتعد الشاي العدني مع بعض المعجنات.
 رمقني عبود: أن اسرعي؛ فلحقته.
 حين ولجت على الموظف لاستكمال تعبئة الأوراق المطلوبة لأثبات هويتي، وجدته هناك..
كان هو.. هو زيد.
 ساكنا، صامتا ومهيبا مثل أثر تاريخي عظيم.
صرخ نبضي: إنه هو.. الرجل الذي احببت، والذي أبى القدر إلا فراقنا .
أحترت..
يا الهي كيف انطفأ وجع ثلاثين عاما من وجداني، وها أنا عدت كما كنت.. عشرينية  تنظر إلى فتاها وكأن الزمن لم يمض، وكأننا لم نفترق سوى ساعات. هل أتقدم إليه وأعرّف عن نفسي أم أدعه لعالمه ولنسيانه.
عقلي يصرخ : أنها ثلاثون عاما، ولا تعلمين  كم بقي من الرجل.
لكن نبضي الجارف يدفعني.
فتقدمت بوجل، ووضعت أمامه اوراقي وكان لا يرفع رأسه إلي، لكنه ما أن قرأ أسمي حتى تغيرت ملامحه الهاربة منه وأصبحت تلك الملامح القديمة التي أعرف.
حياة !..
 قال مستغربا.. ولمعت عيناه بوهج جميل ثم كمن يتدارك أمرا قال بصوت أجش: تعازينا.. أحزننا مصابك.. كان زوجك رجلا كريما. ثقي أننا سنبذل ما في وسعنا لاستخراج أرثك هنا، وقد أصبتِ في الرجوع إلينا... اعني إلى بلادك.
بعد أن قلب الكثير من الأوراق، سألني : أين كنت يا حياة؟
محنطة في بلاد الثلج.
هل هناك اولاد؟
الأموات لا ينجبون!.
وأنتَ ؟
 لدي حياة.. ابنتي حياة.
شكرتهُ بعد أن أتممتُ الأمور التي طلِبتْ مني للمعاملة وعدتُ إلى المنزل بروح أخرى، تنسمتها أختي حين بزغتُ عليها من الباب مثل شمس نفت عنها عتمة ليل طويل.