الجمعة، 1 يناير 2016

كن صرحي




المساء ينثُرُ أنفاسَه الباردة المعطَّرة برائحة المطر القادم، وهو يلملم أوراقه ببرودٍ، وعيناه الغائبتان بالكاد تُرى خلفَ سحابة الدُّخان التي تَصدرُ عن سيجارة معلَّقة في فمه منذ زمن!

أما هي، فتراقبُه في صمتٍ، وتتحيَّن الفرصة لطرح سؤالها الأبدي:
• هل ما زلتَ تُحبُّني؟

لتقلع به الذاكرة إلى ساحة حطام، وصبيَّة سقطت ضمن ركام انفجارٍ، أحدَثَه انتحاريٌّ قرب المركز العلمي الذي يعمل به، وضع يدَه على مِعصمها؛ يتحسَّس نبضًا، فصرخ فيه أحدهم:
• إنها ميتة! ألا ترى عينَيْها الجاحظتَيْن إلى السماء؟

مدَّ يده ثانية، أمسكتْ يده بقوة فصرخ هلعًا:
• أنتِ حيَّة؟

أجابت وهي تنفض ترابًا عن رأسها وثوبها، وتنهض:
• نعم.

مضَتْ، ومضى خلفَها، وكانت تعلم أنه في إثرها شيءٌ ما منعها من مراوغة الطريق..

ومضى عام وهي ترى ظلَّه في الزوايا المحيطة بها، وتنشده اقترابًا، لكنه أتمَّ العام قبل أن يقترب ويأويها إلى حِماه!

ليلة الإبحار الأولى أرادت أن تُحدِّثَ روحَه، فأمسكت بكفِّه، وقالت:
• لا أودُّ للمادة أن تلتقي فينا قبل أن تتعرَّف إلى روحي، وتلمسَ حرير نقائي... لا أريدُك أن تخوض فيما يجعلُني أنثى، قبل أن تشاركني معضلات كينونتي!

إني الأنثى، هشاشتي تجلبُ لي ما لا يُرضيني أحيانًا؛ لذا تراني أُلَمْلِمُ وأُرمِّمُ؛ لأقف ثانيةً!

هل تسمعُني؟
لا، لم يكن يستمعُ لما يوحى في حديثها، كان توقُه إلى الإبحار أقوى من الأسى المُوقَد في أنفاسها، وأعلى من هديرِ الاستنجاد في كلماتها، لم يكن يسمعُ أو يشعر حتى أبحَر، وتبيَّن له أن هناك مَن خاض مياهَها قبلَه.. ترجَّل عنها منزعجًا، وانزوى مشمئزًّا؛ فبكتْ، ورجته سترًا!

قالت:
كان منزلُنا في ذلك الحي العريق .. نوافذُه القريبة إن فُتحت جَلَبت ما لا يسرُّ.. وردَتْني الحمى ذلك المساء وكان هو مطاردًا.. قفز إلى نافذتي؛ ليكمل بشاعة ليلتِه بانتهاكي، ثم نام على سريري غيرَ عابئٍ بمن قتل أو انتهك في تلك الليلة، حتى إذا لاح النهار، لبس حزامَه، وانطلق، فركضتُ خلفه أسأله عن شأني..

لكني لم أكن أَسرعَ من إصبعِه إلى الزِّناد! ولم أكن أحرَصَ على الحياة أكثر من حرصه على الموت، بصق روحه على أعتاب المركز الذي تعمل به.

ثم سكَتَتْ..
وأطرق هو.. أطرق أيامًا وشهورًا زاهدًا في وجودها..

لم يكن نفورُه كافيًا لترحل..
ولم يكن ضعفُها ولا حزنها كافيًا ليرحم..
كانت تردِّدُ على مسامعه كلما سَنَحت لها الفرصة: كن صرحي..
لكنه كان مُمزَّقًا بين شهامة الرجل وعنجهيَّته..

فظلَّت مركبُ الحياة تترنَّح بهما زمنًا قبل أن يستقيم لهما الوُدُّ الذي ينبغي أن يكون بين الشريكين؛ لتصبح حياتُهما فيما بعدُ كجنة بربوةٍ أصابها وابلٌ، فآتت أُكُلَها ضِعفين..

ولكن، ولأنها الأنثى التي ينعشها الإعراب عن المشاعر، فقد كانت تطمئن بطرحِ السؤال كلما لمست انحسارًا في روافد وده:
• أما زلتَ تحبُّني؟

فيجيب: كما تَعشَقُ السماءُ شمسَها، ويعشق الليلُ قمرَه، أحبُّك..


إن كنتُ أنا صرحَك، فأنت أرضي التي أقفُ عليها!

0 التعليقات: